٢١ نيسان ٢٠١١
محاضرة حول التعديلات الدستورية-د.عبدالله النسور و د.عمر شاهين
١٩ نيسان ٢٠١١
اليسار العربي: حوار مع جلبير اشقر
أضفْ الى ذلك بندًا أساسيّاً آخرَ من بنود أيّة إستراتيجيّةٍ ثوريّة، ألا وهو تشخيصُ الجبهة المعادية. فنحن نجد أنّ التوحيد العربيّ مهمّةٌ أساسيّةٌ من مهامّ الثورة العربية. الثورة، بأعمق معاني الكلمة، ليست فشّةَ خلق، بل منعطفٌ تاريخيٌّ يؤدّي إلى تحرير القوى المنتجة من البنى الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعوِّق تطوّرها. والحال أنّ تطوّر القوى المنتِجة العربيّة لا يصطدم بالطبيعة الطبقيّة لكلّ دولةٍ عربيّةٍ فقط، ولا بالهيمنة الإمبرياليّة على السوق العالميّة وحسب، بل يصطدم أيضًا وبالدرجة الأولى بتفتيت المنطقة العربيّة إلى أقطارٍ منفصلة، يرتبط كلٌّ منها بالاقتصاد الإمبرياليّ أكثرَ بكثيرٍ من ارتباطها بعضِها ببعض...
ـ هناك فرقٌ أساسيٌّ بين علاقة اليسار بالأنظمة القمعيّة، وعلاقتِه بالقوى المقاتلة: فهذه تجتذب الجماهير تأطيرًا لنضالها، أما تلك فتلجمها منعًا لنضالها. أرى، على سبيل المثال، أنه من المشروع لفصيلٍ يساريٍّ في لبنان أن يكون على علاقةٍ بحزب الله، لكنني لا أرى أنه من المشروع لليسار في لبنان أن تكون له علاقة بالنظام الإيرانيّ. النظام الإيرانيّ نظامٌ رأسماليّ وديكتاتوريّةٌ دينيّة، يعمل بوحيٍ من مصالحه الطبقيّة والفئويّة. أما حزبُ الله، فبالرغم من ارتباطه بالدولة الإيرانيّة، إلاّ أنه يمثّل بالدرجة الأولى زخمًا شعبيّاً في لبنان، وبات درعَ طائفةٍ هي أحدُ المكوّنات الأساسيّة للمجتمع اللبنانيّ،..
أعتقد أنّ تعبير “معسكر الممانعة” مُبالَغٌ فيه عند وصف ما لا يتعدّى تزاوجَ المصالح بين أنظمةٍ وقوًى ذاتِ منطلقاتٍ غير منسجمة. والحال أن بين نظام البعث في سوريّا والنظام الأصوليّ الإيرانيّ هوّةً كبيرةً من الأسس الإيديولوجيّة، على الرغم من تزاوج المصالح بينهما. والأمر ذاتُه ينطبق على العلاقة بين إيران وفنزويلا: فهي علاقة المصلحة بين نظاميْن شديدَي الاختلاف، ..
.
ترى إذًا أنّ دخولَ بعض فصائل اليسار، الفلسطينيّ خاصّةً، في علاقةٍ بنظام بغداد لم يدلّ في الواقع على تغليب الوجهة القوميّة كما ذكرتَ، بل كان نفيًا كاملاً للبعد القوميّ. فالتنظيمات المعنيّة لم تنْظرْ إلى غير مصلحتها القُطْريّة الضيّقة، فرأت أنها تستطيع أن تستفيدَ من علاقتها بنظامٍ قمعيٍّ في بلدٍ آخر. ولو كان فعلاً لدى تلك الأحزاب منظورٌ قوميّ، بمعنى إدراك تلازم النضالات في كافّة الساحات القُطْريّة العربيّة، لا بمعنى الإيديولوجيا القوميّةِ طبعًا، وبمعنى رفع الوعي إلى مستوى مهمّة التوحيد القوميّ العربيّ التي ينبغي أن تكون مهمّةً رئيسيّةً في برنامج أيّ حركةٍ جذريّةٍ في العالم العربيّ، لما قامت ببناء علاقةٍ بنظامٍ على شاكلة حكم بغداد. العلّة إذًا ليست في المنظور القوميّ، بل في المنظور القُطْريّ. خُذ الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين ..
* وهل يجب هدمُ البنيان كلِّه، أمْ إصلاحُه؟
ـ قُل لي أين يمْكن إصلاحُه؟ ليس من دولةٍ في المنطقة العربيّة يمْكن إصلاحُها! طبعًا أنا أتحدّث هنا عن الأفق الإستراتيجيّ. والمسألة أبسطُ وأكثرُ أوّليّةً من موضوع تحطيم الدولة البرجوازيّة في المنظور الماركسيّ المعروف. فدولُ أوروبا دولٌ رأسماليّة، لكنّها تَصْلح على الأقلّ إطارًا للنضال من أجل تغييرها سلميّاً من خلال المؤسّسات الديمقراطيّةً. أما في منطقتنا العربيّة، فالحالتان العربيّتان الوحيدتان اللتان نجد فيهما اليوم مجالاً ما من الديمقراطيّة الانتخابيّة هما تركيبتان طائفيّتان: لبنان والعراق. هذا هو الواقع المُزري القائم. طبعًا، يتحتّم على اليسار أن يسعى، حيث أمكن، إلى توسيع المجال الذي تستطيع الحركةُ الجماهيريّةُ أن تسير من خلاله، أيْ توسيع مجال الحريّات والنضال من أجل المطالب الآنيّة، سواء أكانت ديمقراطيّة أم اجتماعيّة متعلّقة بمستوى المعيشة الكارثيّ على الصعيد العربيّ؛ هذا ناهيك بمجالاتٍ أخرى أساسيّةٍ مثل المجال النسائيّ (إذ لدينا من بين جميع مناطق العالم أسوأُ مستوى من الاضطهاد الجنسيّ بشكل عامّ، والنسائيّ بشكل خاصّ). كلّ هذه النضالات نضالاتٌ يوميّة، وأيُّ فصيلٍ يساريّ يقوم بواجبه النضاليّ سيصطدم بالضرورة بالأطراف الأخرى، الدينيّةِ وغيرِ الدينيّة..
لكنّ المسألة الرئيسيّة إزاء البناء المستقبلي لليسار العربيّ هي طبعًا مواقفُه وممارستُه في ساحته. والظاهرة الأساسيّة التي رافقتْ أفولَ اليسار منذ أواخر السبعينيّات هي احتلالُ التيّارات السلفيّة الدينيّة ساحتَي الكفاح الوطنيّ والمعارضة الشعبيّة للأنظمة. هذه هي المعضلة الرئيسيّة التي تواجه اليسارَ العربيّ. فالمشروع اليساريّ في المنطقة العربيّة يصطدم بهذا الجدار على أرض النضال الشعبيّ قبل أن يصطدمَ بالأنظمة. لذلك أقول إنّ على اليسار أولاً، إذا أراد أن يتمكّنَ من بناء ذاته، أن يكون يسارًا كاملَ الهوية...
إنّ هيمنة حزب الله على ساحة المقاومة المسلّحة تجعل جلَّ ما يمْكن اليسار أن يفعله هو القيام بواجبه الوطنيّ، لكنه لن يستطيع إطلاقًا أن يزيحَ تلك الهيمنة في المستقبل المنظور. غير أنّ هناك مجالاتٍ أخرى عديدةً يستطيع اليسارُ أن يتميّز فيها عن كافّة القوى الأخرى، وأوّلُها الصراعُ الطبقيّ. هذه ساحةٌ أساسيّة، وهي أقدرُ على كسر الجدار الطائفيّ. وطبعًا هناك الديمقراطيّة بمفهومها العميق الذي يشمل العلمانيّة (لا “إلغاءَ الطائفيّة السياسيّة” وحسب)، ناهيك بساحات التحرّر الاجتماعيّ، والساحةُ النسائيّة في صدارتها كما سبق الذكر. كلُّ الساحات التي أوردتُها ليس لليسار منافسٌ فيها، ومن الحكمة الإستراتيجيّة البديهيّة بالتالي أن يسعى اليسارُ إلى بناء نفسه بالتركيز عليها...
...وأخفق اليسارُ الجديدُ الذي ظهر بعد العام 1967. وكان تقييمي منذ أول الثمانينيّات أنّ الموجة السلفيّة ليست بموجةٍ آنيّةٍ ستزول بعد ثلاث سنواتٍ أو أربع، بل ستبقى مهيمنة حتى حصول أحد أمرين: ظهور بديلٍ لها ذي مصداقيّة، أو إخفاقها من خلال أزماتها الداخليّة. والحال أنه لم يحصلْ أيٌّ من الأمرين منذ الثمانينيّات. أما اليوم فأرى بوادرَ تحقيق الشرطين بالتزامن: أولاً، ظهرتْ بوادرُ تأزّم التيّار الدينيّ في تجربة غزّة والإمارة الحماسيّة وتناقضاتها الداخليّة. والأهمّ منها، طبعًا، الأزمةُ في إيران، وهي لاتزال في بداياتها، ولا ندري كيف ستتطوّر، لكنّ تعمّقها ليس بالمستبعَد. ومثلما أدّت الثورةُ الإيرانيّة سنة 1979 إلى إعطاء قوة دفعٍ هائلةٍ للتيّارات السلفيّة الإسلاميّة على اختلاف أشكالها، فإنّ تأزّم التجربة الإيرانيّة (إذا تأكّد) سيسهم في تأزيم المشروع السلفيّ برمّته وإفقاده الصدقيّة. ثانيًا، نشهد بدايةً جديدةً لصعود قوةٍ بديلةٍ في الساحة الجماهيريّة، تتجلّى في تصاعد الصراع الطبقيّ والنضالات العمّاليّة في عددٍ من البلدان العربيّة من المغرب الأقصى إلى الأردن والعراق، مع وجود مصر في الصدارة حيث تتطوّر منذ ثلاث سنوات أعظمُ موجةٍ للنضالات العمّاليّة منذ أكثر من نصف قرن. وقد أدّى هذا التحرّكُ الطبقيّ في مصر، للمرة الأولى منذ العهد الناصريّ، إلى قيام نقابةٍ مستقلّةٍ هي “نقابة موظّفي الضرائب العقاريّة،” وهناك محاولاتٌ لتكرار التجربة في قطاعاتٍ أخرى. أما التيّار الدينيّ فشبهُ غائبٍ عن هذه الساحة، والناشطون فيها يساريون بالمعنى الواسع لليسار الذي يَجْمع الناصريين الجذريين إلى الماركسيين.